-A +A
عبد اللطيف الضويحي
كثيرا ما تكون المصطلحات «الدقيقة والمختصرة» على غرار «المسافة صفر» صواريخ ومسيّرات إعلامية، عابرة للأميّة والصهيونية والتضليل الإعلامي والمعارك الوهمية الجانبية والأكثر قدرة على اختراق جدران الهزائم النفسية العربية والأكثر قدرة على تهشيم الغطرسة والغرور. فـ«مسافة صفر» لا تتصدى لها القبة الحديدية ولا يملك أن يعبث بنتائجها وأن يزوّرها البيت الأبيض أو يتلاعب بنتائجها المستعمرون الأوروبيون.

لقد حدّدت «المسافة صفراً» في غزّة وسمّت الأشياء بمسمّياته، فالشجاع لا يمكن أن يكون جباناً ولا يمكن للجبان أن يكون شجاعاً حين تكون المنازلة وجهاً لوجه دون مساحيق ودون أزرار الأجهزة والتقنية ودون حاملات الطائرات وغواصات نووية ودون عدسات إعلامية ودبلوماسية محدّبة أو مقعّرة، ولهذا انكسرت صورة اعتادها الجميع وتشظّت، وتشكلت بدلاً عنها صورة أحدث منها وأصدق. لقد انكسرت صورة «الجيش الذي لا يقهر»، و«الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، و«بحبوحة الأمن»، و«قِبلة الاستثمار والتقنية الحديثة»، وجاءت مكانها صورة أخرى مناقضة لها تماماً.


أصبحت «المسافة صفراً» مفتاحاً لفهم الكثير من التناقضات في المواقف والتصريحات السياسية والعسكرية والتاريخية والأيديولوجية والإعلامية والتي كشفتها عنها حرب غزة بصورة غير مسبوقة. فكانت «المسافة صفراً» في المواجهة الأزلية بين الحق والقوة، والتي دائماً ما تكون لصالح الحق مهما بلغت القوة والطغيان مهما طال أمدها، حتى لو هددت إسرائيل باستخدام الأسلحة النووية وحتى لو أرسلت أمريكا غواصاتها النووية. وقد كانت «المسافة صفراً» في التشابه والتماثل والتطابق بين هولوكوست النازية ضد اليهود وهولوكوست النازية اليهودية الإسرائيلية الأمريكية البريطانية ضد الشعب الفلسطيني، مثلما كانت «المسافة صفراً» في التشابه والتماثل والتطابق بين إبادة أمريكا للهنود الحمر وإبادة أمريكا وإسرائيل وبريطانيا للشعب الفلسطيني، مثلما كانت «المسافة صفراً» في التشابه والتطابق و التماثل بين الفظاعات التي ارتكبها المستعمر البريطاني والمستعمر الفرنسي والإيطالي والأوروبي عموماً إبان حقبة الاستعمار الأوروبي والفظاعات التي يرتكبها المحتل الصهيوني الغربي في فلسطين في الوقت الراهن.

وكانت «المسافة صفراً» بين ضمائر الشعوب في العديد من الدول الغربية وغطرسة الحكومات الغربية المتورطة بمشاركة ودعم إسرائيل عسكرياً واقتصادياً ولوجستياً ودبلوماسياً وإعلامياً في حربها غير الأخلاقية وغير المهنية ضد سكان مدنيين في غزة ومن خلال إبادة جماعية وتطهير عرقي وفرض تهجير قسري ممنهج مع سياسة تجويع وإرهاب أهل غزة.

كما كانت المسافة صفراً بين «حقوق الإنسان المُدّعاة في الدول الغربية» وسياسة «الإرهاب الإسرائيلي الغربي» التي تجلت بتحالف وشراكة واضحة بين الطرفين الغربي والإسرائيلي، وصل حد قصف المستشفيات واستهداف طواقمها الطبية والمرضى والمحتمين في تلك المستشفيات.

لقد كانت المسافة صفراً بين الجمهوريين والديموقراطيين في دولة لم تترك أحداً في الأرض إلا وأقرفته بمعزوفة الديموقراطية والحرية. فعندما يتعلق الأمر بانتقاد إسرائيل والمناداة بحقوق الفلسطينيين، تتآكل الديموقراطية والحرية وتتحول لاتهامات بمعاداة السامية ودعم الإرهاب عند الطرفين الديموقراطي والجمهوري، حتى لو كانت حقوق الشعب الفلسطيني منصوصاً عليها من نفس المرجعية الشرعية الدولية التي يقاتل من أجلها البيت الأبيض والكونغرس في أوكرانيا.

لقد كانت المسافة صفراً في تعرية الفجوة بين «الإعلام المؤسساتي الغربي الحر» أمام الإعلام الحديث وإعلام التواصل الاجتماعي الذي لا يخضع لابتزاز رأس المال اليهودي وضغوطات العنصرية الصهيونية أو الولاءات الأيديولوجية والدينية.

لقد كانت المسافة صفراً بين التهجير القسري للشعب الفلسطيني الأصيل في أرضه، أمام مئات الآلاف من اليهود الهاربين من فلسطين خلال الحرب الأخيرة إلى بلدان العالم، التي جاؤوا منها أو جيء بهم منها على أمل العيش والاستيطان في «أرض مجانية بحكم أنها مسروقة من أصحابها الأصليين» وفي بلد هي «الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» وبحماية جيش هو «الجيش الأقوى والذي لا يقهر في المنطقة».

لقد أصبحت المسافة صفراً بين مفهوم «الهيمنة الإسرائيلية المطلقة» على المنطقة، و«زوال إسرائيل من الجغرافيا ومن التاريخ» في أبهى وأوضح صورها، تنبئ بذلك سلوكيات الصهاينة الهمجية، الخارجة عن القانون وعن المهنية وعن الأخلاق والإنسانية، ناهيك عما أنبأت به الكتب السماوية والنصوص الدينية.

أخيراً، أتمنى ألا يضيع الكثير من الوقت وألا يسفك المزيد من دماء الأبرياء الفلسطينيين، قبل أن يدرك الصهاينة ومعهم النظم الاستعمارية في واشنطن ولندن وباريس، ويفهموا جيداً الفرق الكبير بين أن تكون سائحاً مقيماً أو عابراً في فلسطين أو أن تكون مواطناً فلسطينياً عربياً في فلسطين.